/ الفَائِدَةُ : (85) /

25/03/2025



بسم الله الرحمن الرحيم ، وصلى الله على محمد واله الطاهرين ، واللَّعنة الدَّائمة على أَعدائهم اجمعين. / عنوان (اللُّغة) شامل لمعنى الثقافة وما شاكلها / إِنَّ عنوان: (اللُّغة) توسَّع في العصر الرَّاهن ـ في بحوث العلوم: (الإِنسانيَّة)، و(الِاجتماعيَّة)، و(الحضاريَّة) وغيرها ـ ليشمل ـ بالإِضافة إِلى اللُّغة والأَلفاظ المعهودة ـ الثقافة؛ فثقافة أَيّ مجتمعٍ وأَيّ بيئةٍ خاصَّةٍ لُغَة من اللُّغات العصريَّة، فلكُلٍّ مِنْ الفقهاء، والأَطباء، والمهندسين، والقانونيّين، والسياسيّين، والعسكريِّين والَأمنيِّين وهلمَّ جرّاً من سائر الأَصناف ثقافته ولُغَته الخاصَّة. بل الرَّائج في العصر الرَّاهن في العلوم والبحوث الإِنسانيَّة والِاجتماعيَّة والفلسفيَّة: أَنَّ صدق عنوان اللُّغة علىٰ هذا النحو أَحَقُّ من صدقه علىٰ لُغَة الأَلفاظ المعهودة. ولا يبعد إِشارة بيان قوله تقدَّس ذكره: [وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ](1) إِلى هذه اللُّغة. بتقريب: أَوَّلاً: إِنَّ المراد من (اللِّسَانِ) في البيان الشَّريف ليس الأَلفاظ واللُّغة المعهودة، وإِنَّما لِسَان ولُغَة الثقافة الموجودة لدىٰ أَقوام الأَنبياء والمرسلين، فيُبعث النَّبيّ بثقافة قومه؛ كيما لا يكون فرداً شاذّاً. وإِلى هذا أَشارت بيانات الوحي الأُخرىٰ، منها: بيان الإمام الرِّضا عليه السلام ، عن أَبي يعقوب البغداديّ، قال: «قال ابن السِّكِّيت لأَبي الحسن عليه السلام : لِماذا بَعَثَ اللهُ موسىٰ بن عِمْرَان عليه السلام بالعَصَا، ويده البيضاء، وآلة السِّحْر؟ وبَعَثَ عيسىٰ عليه السلام بآلَةِ الطِّبِّ؟ وبَعَثَ مُحمَّداً صلَّىٰ الله عليه وآله وعلىٰ جميع الأَنبياء بالكلام والخُطَب؟ فقال أَبو الحسن عليه السلام : إِنَّ الله لَـمَّا بَعَثَ موسىٰ عليه السلام كان الغَالِبُ علىٰ أَهل عصره السِّحْرَ فأَتاهم من عند الله بما لم يكن في وُسْعِهِم مِثْله، وما أَبْطَلَ به سِحْرَهُمْ، وأَثْبَتَ به الحُجَّة عليهم، وإِنَّ الله بَعَثَ عيسىٰ عليه السلام في وقتٍ قد ظهرت فيه الزَّمَانَاتُ واحتاجَ النَّاسُ إِلى الطِّبِّ، فأتاهم من عند الله بما لم يكن عندهُم مِثْلُهُ، وبما أَحيا لهم الموتىٰ، وَأَبرأ الأَكمه والأَبرص بإذن الله؛ وَأَثبت به الحُجَّة عليهم، وإِنَّ الله بَعَثَ مُحمَّداً صلى الله عليه واله في وقتٍ كان الغالبُ علىٰ أَهل عصره الخُطَبَ والكلام ـ وأظنَّه قال: الشِّعْرَ ـ فَأَتاهُمْ من عند الله من مَوَاعِظِهِ وحِكَمِهِ ما أَبطل به قولهم، وأَثبت به الحُجَّة عليهم . قال: فقال ابن السِّكِّيتِ: تاللّٰـهِ، ما رأَيتُ مِثْلَكَ قَطُّ ...»(2). ودلالته واضحة؛ فإِنَّ بعثة كُلّ رسولٍ جاءت على وفق الغالب مِنْ أَحوال وثقافة عصره؛ فبُعثَ النَّبيُّ موسىٰ عليه السلام بـ: (العصا) بعدما كان الغالب علىٰ أَحوال وثقافة قومه: السِّحْر، فإِذا هي حَيَّة تسعىٰ تلقف ما يُؤفكون، وفلق بها البحر يبساً؛ فأَبهرت كُلّ ساحرٍ، وأَذلَّت كُلَّ كافرٍ. وَبُعِثَ النَّبيّ عيسىٰ عليه السلام بعدما كان الغالب علىٰ أَحوال وثقافة قومه: الطِّبّ بـ: (إِبْرَاء الزمنىٰ)، و(إِحْيَاء الموتىٰ)؛ فأَدهَشَ كُلَّ طبيبٍ وأَذْهَلَ كُلَّ لبيبٍ. وبُعِثَ سيِّد الأَنبياء صلى الله عليه واله بعدما كان الغالب علىٰ أَحوال وثقافة قومه : الفصاحة والبلاغة بـ: (القرآن الكريم)؛ فإِذا هو في الفصاحة والبلاغة والإِيجاز ما بَهَرَ به الفُصَحَاء، وَأَعيىٰ البلغاء، وقهر الشعراء، فكان العجز والتقصير عنه أَقهر وَأَظهر. ثانياً: لو تنزَّلنا ـ وقلنا: إِنَّ بيان قوله تقدَّس ذكره محمول علىٰ اللُّغة اللِّسانيَّة المُتعارفة ـ فنقول: إِنَّ لبيانات الوحي الإِلٰهيّ القابليَّة علىٰ الحمل ـ بالدلائل والقرائن والشَّواهد العلميَّة ـ علىٰ معانٍ غير متناهية. فانظر: 1ـ بیان قوله تعالىٰ : [وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ](3). 2ـ بيان أَمير المؤمنين عليه السلام : «... وَأَنَّ الكلمة من آل مُحمَّد تنصرف إِلى سبعين وجهاً ...»(4). والعدد في المقام لبيان الكثرة لا الحصر، كحال بيان قوله تقدَّس ذكره: [إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ](5). ومن ثَمَّ يمكن حمل بيانات أَهل البيت عليهم السلام ـ بالدلائل والقرائن والشَّواهد العلميَّة ـ علىٰ معانٍ غير متناهية، كحال بيانات القرآن الكريم؛ لأَنَّ الجميع وحي إِلٰهيّ. وحيث إِنَّ القرائن والدَّلائل العلميَّة في المقام تُساعد علىٰ سراية وشمول عنوان ولُغَة: (اللِّسان) إِلى كُلِّ لُغَةٍ تؤدِّي مؤدَّاها والإِيصال إِلى ما ورائها، فيكون صدق وبیان قوله تقدَّس ذكره على اللُّغَة والثقافة الرَّائجة، واللُّغَات: العلميَّة والعقليَّة والمعادلات البرهانيَّة وما شاكلها كصدقه علىٰ اللُّغة المُتعارفة. / فلسفة استخدام النَّبيّ سليمان عليه السلام لعِلْمِ الفنِّ والجمال / ومن كُلِّ ما تقدَّم تتَّضح: نُكْتَة وفلسفة اِستخدام النَّبيّ سليمان عليه السلام وتوظيفه لعِلْمِ الفنِ والجمالِ المُحلَّل؛ للدعوة إِلى التَّوحيد. وهذا أَمْرٌ بَدِيعٌ كشفت عنه بيانات الوحي، منها: بيان قوله جلَّ شأنه المُقتصّ لخبره عليه السلام مع بلقيس ملكة سبأ: [قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ] (6) . فإِنَّه برهانٌ وحيانيٌّ، وأَصلٌّ قرآنيٌّ مُشرِّع لجواز اِستعمال الفنّ والجمال في الدَّعوة الإِلٰهيَّة. ومعناه: أَنَّ نشر الدَّعوة إِلى الحقِّ لا يتوقَّف على البرهان العقلي والفكر الجاف ، بل أَدقُّ المعاني المُعقَّدة والصعبة يمكن تسويقها في أَذهان ونفوس وأَرواح البشر لإِيجاد الجذبات المعنويَّة في دخيلة ذواتهم ؛ بتوسُّط لُغَة الفن والجمال؛ ولعلَّ بلقيس لم تستجب لِلُغَة البرهان العقلي كما استجابت لِلُغَة الفنّ والجمال؛ نتيجة أَنَّها صاحبة فنون وسلطات وإِمكانيَّات دولة ، فلمست ـ من خلال إِمكانيات دولة النَّبيّ سليمان عليه السلام ؛ ومهاراتها الخارجة، وتقدُّمها علىٰ مُكْنَة وقدرة ومهارات دُوَل البشر ـ: التَّوحيد، لكن لا بلُغَة البرهان العقلي واللُّغة الفكريَّة؛ والدَّليل الفلسفي والكلامي والعرفاني، وإِنَّما ـ لمسته ـ من خلال لُغَة : (علم الفن والمهارات والجمال). وهذا ما يُوضِّح ـ كما تقدَّم ـ: نُكْتَة تعدُّد معاجز الأَنبياء والرُّسل عليهم السلام ؛ في السِّحر، والطب، والنحت، والفنِّ، والبلاغة، وهلَّمَ جرّاً. وهذا ما نفتقده بشكلٍ اِستراتيجيّ كبير في الدَّعوة إِلى هدي نور الثقلين؛ فنحن أَتباع أَهل البيت عليهم السلام لم نستخدم الفنّ والجمال في جانبه المُحلَّل لجهة الخير والصلاح كما استخدمه أَعدائهم عليهم السلام لجهة الشرّ والفساد ونشر الرذيلة، ومن ثَمَّ كانت شعوب كثير من البلدان الإِسلاميَّة قبل فترة موالية لأَهل البيت عليهم السلام ، لكن الوهابيَّة وعِبر فنّ وجمال قراءة القرآن الكريم وجماليَّة صوت ترتيله وتجويده قلبت ولائهم إِلى عداء لأَهل البيت (صلوات اللّٰـه عليهم). ولك أَنْ تقول : هناك معارف وعقائد ولطائف توحيديَّة عظيمة جِدّاً؛ أَصحرت بها بيانات الوحي من خلال لُغَة القصص وما شاكلها من سائر اللُّغات ، ولم تُبيِّنها بلُغَة البرهان العقلي ، أَو بلُغَة الحكمة والأَحكام ، ومن ثَمَّ لا يظنّ الباحث أَنَّ تراث وبيانات الثقلين تُبيَّن من خلال قالب تعليميّ فارد؛ وهو قالب البرهان العقلي ، فلذا ذكر جملة من المُحَقِّقين البارعين في علم التَّفسير وسائر علوم المعارف : أَنَّ بيانات الثقلين تصحر بمعارف عظيمة ومهولة جِدّاً في التَّوحيد بلُغَة الدُّعاء ؛ فإِنَّه أَحد اللُّغات والأَساليب البيانيَّة التعليميَّة ، الَّتي لا تقتصر على قالب : الحكمة والبرهان العقلي ، بل لها عدَّة قوالب ، منها : القصص ـ كما تقدَّم ـ ، والأَمثال ، والزيارات ، والأَذكار ، والخطابة ، والمواعظ ، والجدل ، والمغالطة ، والشعر ، والزجر ، والطلب ، والسنن ، والآداب ، والأَحكام ، والتأريخ ، والتصوير والتمثيل والتخييل ؛ لأنَّ طبيعة قوالب بيانات المعارف الإِلٰهيَّة مُتداخلة وبأَثواب مُتعدِّدة. إِذَنْ : في جملة العلوم يقين عقلي ، لكنَّه لا ينحصر بالبرهان العقلي ـ خلافاً لِـمَا ادَّعاه أَرسطو ، وابن سينا ، وسائر فلاسفة المَشَّاء وفَلاسفة الإِشْرَاق ـ، فلا ينحصر البرهان بعلم الفلسفة، ولا بِعلم الكلام، ولا بعلم العرفان، وإِنَّما يعمُّ كافَّة العلوم، ومن ثَمَّ يحصل لكثير من نوابغة علم الفيزياء وعلم الكيمياء، وغيرهم من نوابغة سائر العلوم مُشاهدات عظيمة، وحالات انبهار معنوي، رهيبة تُضعضع ذواتهم ونفوسهم، ويشتدُّ بسببها خضوعهم وخشوعهم لساحة القدس الإِلٰهيَّة، ويدركون ببركتها براهين عقليَّة وعلميَّة قد لا تحصل لفيلسوفٍ أَو مُتكلِّمٍ أَو عارفٍ ما، تكشف عن مدىٰ هول وعظمة السَّاحة الإِلٰهيَّة وأَفعالها(7). إِذَنْ: البراهين والشُّهود والمُشاهدات لا تختصُّ بعلم الفلسفة وعلم الكلام وعلم العرفان، بل تشمل جميع العلوم. وعليه: فرُبَما يُثبِت الأَحْيَائيّ: التَّوحيد وسائر مباحث وحقائق أَبواب العقائد والمعارف كالنُّبُوَّة والإِمامة والمعاد بعلم الأَحياء(8). وهذا أَمر دارج ومعروف. وصلى الله على محمد واله الاطهار . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) إِبراهيم : 4. (2) بحار الأنوار، 17: 210/ح15. أُصول الكافي، 1/ كتاب العقل والجهل: 19ـ 20/ح20. (3) لقمان: 27. (4) بحار الأنوار، 25: 173. (5) التوبة: 80. (6) النمل: 44. (7) الحكمة الإِلٰهيَّة ـ الإِلٰهيَّات بالمعنىٰ الأَعم ـ، وهي: الخطوط العامَّة للأُلوهيَّة والرؤية العقائديَّة والمعرفيَّة بتسالم جميع أَصحاب العلوم هي أَساس إِنطلاق جملة العلوم. (8) موضوع علم الأَحياء أَو (البيولوجيا): نمو الأَجسام، ونمو الشُّعور والإِحساس